بخطواتٍ سريعة قطع نور (10 سنوات) وشقيقه ورد الذي يصغره بعام، الشباك تلو الآخر وهما يركضان في ممرٍ داخل السجن، حيث يجلس كل أسير أمام أمه أو زوجته ويفصل بينهم عازلٌ زجاجي، في زيارتهما الأولى قبل عدة أيام لوالدهما الأسير عبد المنعم عثمان طعمة (54 عامًا) بعد ثلاث سنوات من المنع بحجة إجراءات فيروس كورونا.
عن بعد أمتار وقفت والدتهما تتأمل المشهد بدموع قهرٍ، وهي ترى طفليها يضعان كفة أيديهما على الزجاج قبالة كفة يد أبيهم، وهذا النوع من المصافحة لا يعرفه سوى الأسرى.
الأسير طعمة، اعتقله الاحتلال عام 1989 وحُكم بالسجن المؤبد مدى الحياة، قبل أن يفرج عنه في صفقة وفاء الأحرار عام 2011 بعد 22 عامًا من الاعتقال، وهو من سكان محافظة طولكرم بالضفة الغربية، وتزوج ورزق بولدين: نور وورد، قبل أن يعيد الاحتلال اعتقاله عام 2014 ويعيد الحكم السابق له، بينما تتجرع عائلته مرارة غيابه عنهم منذ ثماني سنوات.
الذكرى الثامنة
"الثامن عشر من يونيو، هي ذكرى أليمة وحزينة تمر علينا، كوني زوجة أسير بالنسبة لنا هو عماد البيت، فجأة تحملت كل شيء وزادت الأعباء علي، ونحن ننظر إلى حاله وهو مغيب منذ ثلاثة عقود خلف قضبان الاحتلال"، ورغم ذلك تقول زوجته وفاء طعمة لصحيفة "فلسطين" إنهم أصبحوا أقوياء، وإن حلّت الذكرى الثامنة في غياب زوجها هذا العام، فهي تأمل أن يأتي العام القادم وهو محررٌ خارج الأسر.
ما يعزز أملها في ذلك، البيان التحذيري لأسرى صفقة "وفاء الأحرار" المعاد اعتقالهم من بدء خطواتهم الاحتجاجية، والتي تتمثل بالإضراب المفتوح عن الطعام، احتجاجا على استمرار اعتقالهم، داعيةً أبناء الشعب الفلسطيني مساندة محرري الصفقة في نيل حريتهم.
لا يزال صدى يوم اعتقاله محفورًا في ذاكرتها، "كانت الساعة الثالثة فجرًا، أفقنا على صوت قرع الباب، وكانوا يريدون تفجيره، كان عمر "نور" عامًا وتسعة أشهر، في حين لم يزد عمر "ورد" على خمسة أشهر، يومها اقتحم المنزل نحو ثلاثين جنديًا وأرعبوا أطفالي بشكل فج"، تقول وفاء.
اعتقدت أن غياب زوجها كما أخبرت لن يزيد على عدة أشهر، ولم تتوقع أن يأتي العام الثامن وهو غائبٌ عنهم، وأضافت: "هو الحاضر الغائب في كل يوم يستذكره طفلاه، في المناسبات وفي الأفراح، الأطفال من العائلة يذهبون مع آبائهم في كل المناسبات، في حين يذهبان هما وحدهما، وهذا ما يؤلمهما كثيرًا، الآن أصبح نور في الصف الخامس، وورد بالصف الرابع، وهما في لهفة لعناق أبيهم".
تسافر بذاكرتها لأيام تلت لحظة إعادة الاعتقال: "بقيت أُذكّر نور بوالده، فقد جمعتهما مقاطع فيديو وصور كثيرة، كان نور فرحة عبد المنعم الأولى وبكره، يظل طوال الوقت معه ويلاعبه، ولا يفارقه، كأنه روحه، ثم جاء ورد لتتفتح السعادة داخل منزلنا أكثر، وما رأيته سعيدًا هكذا، لكن سعادتنا ذابلة في غيابه، فلم يتوقع عبد المنعم أن يبعده الاحتلال عن طفليه وكأنه فصل روحه عن جسده".
الزيارة الأولى
بعد ستة أشهر من إعادة الاعتقال، حملت طفليها وذهبت بهما إلى زيارة والدهما لأول مرة، تعرّف نور على والده بفضل الصور التي جمعتهم، أما الحال لدى ورد فكان مختلفًا: "أخذه المجند، وذهب به إلى والده حيث يسمح الاحتلال بإدخال الأطفال لمدة عشر دقائق لوالدهم كل شهرين، لكن ورد –وهذا شيء طبيعي– لم يتعرف على والده، "ولم يسمحوا لي بمرافقته حتى أُعرّفه على والده، واستفز المجند زوجي ساخرًا: "شايف ابنك بدهوش اياك" محاولاً التأثير على معنوياته، ومع الوقت عرفته على القصة كاملة، وأصبح متعلقًا في والده ويعرف كامل التفاصيل، ويحب والده ويعلق صوره على جدران غرفته".
تعلق وفاء على منع الاحتلال إدخال طفليها لوالدهم قبل أيام بحجة كبر سنهم، مستغربة القرار بضحكة ساخرة: "لا أعرف سن الأطفال في القاموس، إن كان الطفلان اللذان لم يتجاوزا عشرة أعوام كبار سن، وهما اللذان يحرمهما بشكل غير قانوني من والدهما الذي أعيد اعتقاله بطريقة غير قانونية ومخالفة للصفقة التي تمت برعاية مصرية وأوروبية، ويفترض أن يحترم الاحتلال اتفاقيته ولا يخترقها".
الأربعاء الماضي، لم يزُر النوم عيني نور وورد وهما ينتظران بلهفة عناق أبيهم بعد ثلاث سنوات من المنع ليخبراه أنهما حصلا على تقدير امتياز في الدراسة، تقاطر الدمع من عينيها وهي تستذكر المشهد "الأمر كان صعبًا علي، عندما رأيت نور وورد يتحسسان يدي أبيهما من خلف الزجاج وهو يفعل ذلك، كنت أرى الدموع في عيونهم، هذا قمة القهر".
رغم اعتقاله منذ ثلاثة عقود، ورغم تغييبه عن عائلته منذ ثماني سنوات، فإن الأسير عبد المنعم ما زال يسطر إنجازاته من خلف القضبان بعدما أتم ماجستير الدراسات السياسية، وحفظ القرآن الكريم، ويعطي دورات في اللغة العبرية "هو رجل مثقف جدًا؛ عصامي" حسب تعبير زوجته.
عندما أفرج عنه في صفقة وفاء الأحرار، حدد الاحتلال له خارطة إقامة جبرية داخل مدينة طولكرم ومنعه من تجاوز حدود الخارطة، والمفارقة أن أرضه كانت تبعد عدة أمتار عن نهاية حدود تلك الخارطة وتتبع محافظة جنين، ومنعه الاحتلال الدخول إليها، كما منعه السفر أو التواصل مع أصدقائه المحررين في غزة، ثم أعاد اعتقاله بعدما قيد حياته خارج الأسر، معتبرة إعادة اعتقاله "صاعقة، والأكثر هو إعادة الحكم المؤبد له".

